كان حيا هادئا ينعم بسكون يعز في مدينة تفور بالناس كالقاهرة ، تتناثر فيه العمارات والفيلات ، تلتصق هذه بتلك ، لتقدم شكلا فريدا من التنافر بات يعاني منه العمران في جل المدن العربية . كان هذا الحي الصغير ركنا من الحي الكبير " الدقي " في الجيزة .
هناك كان بيتنا الذي انتقيناه بعد تطواف وتجوال دام أياما ، شقة مفروشة في الطابق السادس في عمارة حديثة ، تشرف على ما يحيط بها من مساكن عتيقة ينخفض ارتفاعها إلى الطابقين أو الثلاثة ، كان يبدو واضحا أن صورة جديدة بدأت تتكون في هذا الحي ، فيلات تختفي وعمارات تنبت كالفطر ، يزداد ارتفاعها بازدياد رصيد بانيها الذي قد يكون جزارا أو سباكا أو تاجر مخدرات ؟؟؟ وكيف لا ومصر تحيى عصر الانفتاح وبدأت تجني تبعاته المفزعة ، تضرب الوعود التي أغدقت بالرفاه والغنى والنعيم بعرض الحائط ، وتفرز مجتمعا غير الذي كان وغير المأمول ..
كنت وأختي قد عقدنا العزم على متابعة الدراسة هنا ، وها نحن خضنا تجربتنا الأولى في اختيار مسكن ، بسعادة ضاهت سعادتنا بوجودنا في القاهرة وبانضمامنا إلى جامعتها التي سمعنا عنها طويلا عن بعد ، بعد أيام ستصبع مقصدنا اليومي و منهلنا الذي ننهل منه المعارف التي انتقينا . كنا نفتقد عطف الأهل ودفء الوطن ، لكننا لم نسكن بإحساس الغربة ، وكيف يتأتى له ذلك وقد جبلنا صغارا بالإيمان بالأمة والوطن الواحد ، وسرى فينا ذلك الإحساس مسرى الدم في العروق . ها نحن وضعنا على المحك ، وها نحن سرعان ما احتوينا المصريين بتلقائيتنا وانفتاحنا واحتوونا هم بلطفهم وعفويتهم ، ونسجنا من الصلات والعلاقات مع الإنسان والأزقة والدروب ، و برد الشتاء وقيظ الصيف ، ما جعلنا ننقلب من ضيوف إلى أهل دار كما يقولون .
كنا حيث نحن ، نشرف على شارعين رئيسيين ، مصدق وشهاب ، وكانت الجامعة ، قريبة في مرمى البصر ، فهاهي قبتها تبرز جلية تلتحف غبار الزمن الذي مضى وتكتسي لونه الرمادي ، وها هو برجها القصير باديا للعيان ، بساعته الشهيرة التي لطالما قرعت بصوتها الجهوري تعد ساعات اليوم وتذكر بالوقت ، هي ذات الساعة التي سمعناها مرارا ، لاحقا ، تدوي عبر أثير الإذاعة ، في حين تقبع في الجامعة صامتة ساكنة بلا حراك ؟؟ ها هي الجامعة لا يفصلنا عنها سوى حي " بين السرايات " الحي الذي لم ينل من اسمه نصيب ؟؟ حي شعبي مغرق في شعبيته ، يفصله عن الجامعة أمتار هي عرض الشارع فقط ، تزاحمت بيوته حتى تحسبها تتكئ بعضها على بعض ، وتشابكت أزقته لترسم لوحة سريالية أين منها خيوط بيت العنكبوت ؟؟ وها هم سكانه ركنوا إلى ما هم فيه ، حالهم حال كثيرين غيرهم على امتداد بلاد العرب ، تساكنوا مع الحاجة و الفقر ، وأدمنوا الرضا والقناعة والصبر ، ونسوا أن من ارتضى السكنى ، حيا ، في مدفن أو قبر ، ليس غريبا أن يأنس الجور والقهر ؟؟ وذلك أمر تحقق وصار .
على بعد خطوات مسكن للطالبات الكويتيات ، عمارة كاملة تكتظ بفتيات آثرن الدراسة هنا ، أتين من مجتمع أتخمه مال النفط ، ولم يكن حينها يملك من مقومات الدولة إلاه ، كانت مؤشرات الثراء بادية على معظمهن ، أو لعلهن كن الحريصات على إظهارها ؟؟ عشرات من الطالبات ، بينهن واحدة عرفتها ، كان اسمها" وفيقة " ، لم يكن يستهويني الاسم أبدا حين تعرفت بها ، لكنه استهواني لاحقا بعد أن خبرتها ، فقد أسدلت عليه من خصالها و صفاتها وملامحها الكثير حتى صار محببا لي قريبا مني ، هي صديقتي الكويتية التي خبرتها لسنوات ، لم تكن تأبه بالمال كدأب أهل الخليج ، ولم تحسبه يوما جواز مرورها لقلوب البشر كما يحسبون ، عربية الجمال ، بريئة الملامح ، خفيضة الصوت ، وتحمل زادا من الأخلاق والعفة ما يكفل حمايتها أنا كانت وأنا ذهبت ، كانت من أشار إلي نحو ذلك الركن من المدينة ، وكانت من أوليات من صادقت هناك ، ومن مارست معهن ومارسن معي مفهوم الصداقة الحقة المجردة التي تغفل عن الشكل والجنس والوطن و الهوية ، ولا يغذيها سوى العقل والتفاهم والمحبة ، دون غايات أو غرائز أو نزعات أو أغراض تحاول أن تتخفى أو تتنكر ، وهذه معاني يعمى عنها الكثيرون أو يتعامون ولا يرون في المرأة إلا أنوثتها ، و في الرجل إلا ذكورته . وكم سعدت بصداقاتي تلك التي دامت وعمرت . كانت صداقات عمقت إيماني بأن صداقة المرأة بالرجل قد تكون أقوى وأمتن وأنزه حتى من صداقة الجنس الواحد .
ولم يكن " الزعبلاوي " طالب الطب الأردني الذي أخذ كل النصيب من اسمه ، حتى غدا زعبلاويا ؟؟ ببعيد عن شرفتنا ، فقد كان يقابلنا و كانت نظراته تقتحم نوافذ وجدران شقتنا في كل وقت ، دون استئذان ، محاولة أن تشفي فضوله ، بعد أن آثر التحول من غرف منزله إلى شرفته المطلة علينا ، معسكرا فيها ليل نهار ، فارضا علينا مواقف وقصصا لا بد عائد أنا إليها يوما .
كانت القاهرة تلك الأيام ، تعاني غليانا متصاعدا ، بدأت تبعات الانفتاح تبدو للعيان ، وتنامت الجماعات الإسلامية ، في ردة فعل طبيعية لما آلت إليه أحوال البلد ، وانتعشت ، وقويت شوكتها ، وهاهي انتفاضة الفقراء التي أسماها السادات انتفاضة الحرامية تجتاح مصر بأسرها ، وكأن أهل مصر كلهم حرامية ؟؟؟ وهاهي زيارته لإسرائيل ؟؟ واتفاقية كامب ديفيد و المقاطعة العربية لمصر ، وها هو الأمن يتسيد الموقف وينشر عيونه في الشوارع والميادين والدروب والأزقة ، يمارس ما شاء من أصناف القمع والاعتقال ، وهاهي شرطة الانضباط تتأسس ، وحرس الجامعات يظهر ليحول الدخول والخروج من وإلى الجامعة محنة لا تضاهيها إلا محنة الجلوس فيها ؟؟؟ تأججت النفوس ، إذ كانت لا تزال حية لم تمت ، وألهبت أغنيات الشيخ إمام والفاجومي نجم ، السرية ، ما تبقى منها خامدا ، وساندتها خطب الشيخ كشك ، الذي لم يسكته إلا اعتقاله ، ولست أنسى ذلك الخطاب الشهير الذي بدا فيه السادات قاتم الوجه ، مكشرا عن أنيابه البيضاء ، متوعدا مرعدا مزبدا و متشفيا بالشيخ كشك موميا إليه بأنه هناك في السجن مرمي زي الكلب ؟؟ وصابا نقمته الإسلاميين ( وإن كنت لا أستسيغ هذه الكلمة كوصف ) ناعتا المتحجبات بأنهن كالخيام المتحركة ؟؟ ومطلقا وعيده الشهير " الديمقراطية ليها أنياب ؟؟ " كان التوتر يخيم على الأجواء ، و الترقب سيد الموقف ، والحذر والقلق شيمة البسطاء .
تلك الأجواء الملبدة لم تكن تبدو في ذلك الركن من المدينة ، ولم تكن تفرض نذرها على وتيرة الحياة الهادئة هناك ، ظل الحي ينعم بسكونه المعتاد فحسبته دائم أبدا ، وحسبت أنه سيبقى الملاذ الآمن الذي نأوي إليه للسكينة ، لكن ظني خاب ، وحدسي اختل ما أصاب .
ففي صبا ح لم يكن ككل صباح لفتت انتباهي حركة مريبة في الشارع المجاور ، وجوه جديدة تقطع تروح وتجيء ، وعمال في واحدة من الفيلات المقابلة يعملون بجد استثنائي ، وكأنهم يعدون المبنى ليكون جاهزا لاستقبال ساكنيه الجدد خلال يومين أو ثلاثة ، ناهيك عمن اعتلوا الأسطح المجاورة يتابعون ويرصدون الشاردة والواردة ؟؟؟ كنت وقتها أراقب ما يجري من شرفتنا ، ولم أغفل عن تلك النظرات التي ترقبني من هنا وهناك فيها ما فيها من الضيق ، والتربص الذي لم أكن أفهم له سببا ، لكنني تجاهلته ببرود زاد ضيق من ضاق واستفزاز من استفز ؟؟
دام الحال على هذا المنوال أياما ، ركنت خلالها إلى الاعتقاد بأن الأمر لا يعدو عن كونه متعلقا بشخصية ما ، حكومية ربما أو حزبية جائز ؟ ( ولم يكن قد مضى على تأسي الحزب الحاكم طويلا) ، تعتزم السكنى في الفيلا المجاورة ، معتقدا وجازما ، بأن هذه الاحتياطات والمراقبة لن تدوم طويلا بعد أن يستتب الوضع وتحط رحال الساكن الجديد في داره ، موقنا أن الأمر لن يكون شديد الإزعاج ، خصوصا أننا ألفنا جوار الوزيرة الوحيدة في الحكومة حينها ( وزيرة التأمينات والشؤون الاجتماعية ) ، قبل أن ترحل إلى منزل آخر يليق بالوزيرة ؟؟ فلم يكن يفصلنا عن مسكنها سوى ثلاثمئة أو أربعمئة متر ، ولم يكن الأمر مزعجا أو مربكا إلى هذا الحد الذي نلمسه هنا .
دام اعتقادي ذلك أياما ، لكن الرقابة كانت تتزايد ، والمضايقات والمنغصات تتصاعد ، ولم تكن تسير أبدا نحو التلاشي حسبما حسبت ، بل كانت الأيام التي ظننتها تنقضي تتوالى وتتوالد . لم أجد تفسيرا لهذا الذي عكر الأجواء ، ولا الذي أثار الزوابع والأنواء ، وتراكمت علامات الاستفهام في ذهني ، وذهن كل سكان ذلك الركن الذي كان هادئا وما عاد ، حتى فوجئنا ذات صبح لست أنساه بالطرقات تقطع ، وبصافرات سيارات الشرطة تدوي ، فيسمعها من ليس يسمع ؟؟؟ حشد من المركبات السوداء تستبيح شارع "مصدق" المجاور ، وأبدان ضخمة ببزات داكنة تملأ أنحاءه ، ووجوه شاحبة قلقة تخشى المجهول الذي قد يأتي . طوق المكان ، أمن المكان ، لحفنة من الرجال أتت ، يلفت بياض بشرتها وصفرة شعرها انتباه الغافل ، لتشرع مراسيم الاحتفال الجنائزي بارتفاع الراية الإسرائيلية على مبنى أول سفارة صهيونية فوق الأرض العربية ؟؟؟؟ وأين ؟ في القاهرة .