كان هناك ...... شواربي
لم يكن شارعا ممتدا طويلا ، ولا عريضا فسيحا ، ولم يكن يخترق المدينة بطولها ، إنما كان صغيرا، قصيرا ، ضيقا ، مكتظا برواده وسلعه ومتاجره الصغيرة الضيقة التي تصطف تباعا على جنباته وفي الأزقة الجانبية وبمتاجره الفخمة التي تحتل أركانه المتميزة .
شهرته لم تدانيها شهرة ، لا في العاصمة التي حوته ، ولا في غيرها من المدن ، وكيف لا وهي شهرة عمت أصداؤها كل البلدان المجاورة . كان اسمه دائم التردد على ألسنة البسطاء الذين أدمنوا ارتياده ، ليس بقصد الشراء إنما للنزهة والفرجة ؟؟ فهناك أغلى وأحدث ما في المدينه ؟؟؟ وهناك ملتقى المشاهير ممثلين ومطربين ونجوم المجتمع المدني وقتذاك .
شارع الشواربي .. هكذا كان اسمه
يتوسط القاهرة بثقة وخيلاء ؟ يؤمه الناس صبحا ومساء ؟ سمعت عنه كثيرا قبل أن تطأ قدماي أرض الكنانة في وقت كانت فيه تنفض عنها آخر أسمال الاشتراكية ، وتهجر حليفها الروسي لترتمي في أحضان غريمه الأمريكي ... كان نموذجا للتحول الذي فرض على البلاد وللآمال التي كانت تغدق على البسطاء ، مستقبل زاهر ورخاء وسلام .. كان في الشارع ما ليس في غيره ، كان كل ما فيه " مستورد " وكان كل ما في سواه محلي الصنع .
هو مقصد الباحث عما يحمل بين طياته نسمات الغرب ، على رفوفه تكدست قارورات العطر الفرنسي والبزات والأحذية الايطالية والمعاطف البريطانية والجينز الأمريكي والشوكولا السويسرية والأجهزة الألمانية واليابانية ... و في البيوت المشرفة على جانبيه تواعدت أجمل الأجساد الرخامية من كل شكل ولون ، تباع لمن يدفع الثمن ؟ ممثلات وراقصات كن معروفات أحيانا وكومبارس وطالبات جامعيات فاتنات أحيانا ؟؟ كنت تجد كل شيء وأي شيء حتى أني ما نسيت لليوم منظر زجاجات الكوكاكولا الصغيرة قد وضعت لتزين بعض الواجهات ؟؟ وهو المشروب الذي كان محرما إذ ذاك بقرار إدارة المقاطعة العربية لصلة الشركة الصانعة بإسرائيل ..
كان شارع الشواربي النافذة الأولى التي أطل من خلالها البسطاء على كل ما هو " مستورد " وهي كلمة كانت تدغدغ ألباب الكثيرين ، فمن كان يمتلك قميصا أو قلما أو حذاء مستوردا عد من المحظوظين الذين وهبهم الله ما حرم منه الكثيرين غيرهم ، وما كانت مصر في ذلك بشاذة عن الدول التي جنحت نحو النظام الاشتراكي فقد كانت سواء ، وهو نظام رغم بعض ما كان يسوءه حقق لمصر الكثير من صناعة واكتفاء وبعض مساواة وسيادة مكنتها وقتها من أن تكون سيدة نفسها ومصدر قرارها الذي فقدته لاحقا .
لم يكن الشارع شارعا ، كان عالما مصغرا ، نموذجا للمدينة التي حلم السادات بصياغتها ، وصاغها فعلا لكنه كان أول من دفع الثمن ؟؟؟ ومن شارع الشواربي ، بدأ الانفتاح الذي حسبه الكثيرون طوق النجاة وفرجة الأمل ؟؟ وما كان كذلك أبدا ..
سنوات عبرت ، عرجت بعدها على القاهرة أتلمس آثار الأماكن التي وقرت في ذاكرتي ... وبحثت عن شارع الشواربي الذي كان فلم أجده ..
بريقه انقضى ، وغدا يعيش على مجد مضى ، وتاه بين شوارع القاهرة التي غدت كلها شواربي ؟؟؟