لفحته سمرة الصعيد ، وجففت عوده حرارة شمسه ، ونما ذهنه وتفتح حتى ضاقت به قيود وجه قبلي وضاق بها ، فحزم متاعه ، وحط الرحال في القاهرة التي احتواها واحتوته ، ونسج في كل حي منها حكاية وفي كل زقاق من أزقتها ذكرى علقت بباله وفكره .
انحدر من عائلة قبطية موسرة أممتها الثورة المصرية ، فعلقت في نفسه مرارة لم تنجل يوما ، وغصة لم يقو على ابتلاعها أبدا ، كان يحن دوما لعصر الملكية ، وللبحبوحة التي نعم بها في الصغر ، قبطي لكنه مخالف لجل الأقباط المصريين ، لم يكن يومي ولا يوحي بقبطيته وكأن الأمر لا يعنيه ، أو كأنه أمر لا يعني سواه ، يتعامل مع الجميع بوتيرة واحدة بنفس الحرارة والحميمية والتواصل وهو ما لا يحذو حذوه الأقباط الآخرون ، وما هو بالذي يتنكر لقبطيته حين يلزم التوضيح ، وكيف يتنكر واسمه ناطق بها مشير إليها على الدوام .
كان أنيقا متأنقا ، يستمتع بالهندام ، حريص على البزة الرسمية حرصه على تأبط حقيبة السامسونايت السوداء وربطة العنق ودبوسها المذهب ، ودبوس القميص والمنديل الحريري والعطر الفواح والحذاء اللامع ، يدقق في كل شيء ويستوي عنده أكان متوجها للعمل أم للشارع أو السينما ، فالأناقة في عرفه لا تتجزأ ؟؟
هذا هو الأستاذ نجيب جلته ...
أستاذ اللغة الفرنسية في السعيدية الثانوية العسكرية ، اللغة التي عشقها فملك نواصيها ، وأجاد تفاصيلها وسبر خفاياها ، حتى غدا لعمري من أشهر من درسها في القاهرة ، وأصبح عمله اليومي يمتد ثمانية عشرة ساعة أو أكثر ، تتوزع بين المدرسة و الدروس الخاصة ، ليس لحاجة أوعوز ، وهو الذي ظل موسرا رغم التأميم ، إنما حبا في اللغة وحبا في حياة الحركة و التنقل وهو الذي ظل عازفا عن الزواج عاشقا لحريته مرددا إن أهم ما فعله في حياته عزوفه عن الزواج ، لأنه بذلك تلافى إضافة عاهة أخرى للعاهات التي تملأ البلد ؟؟؟؟
حين عرفته كانت ملامحه قد خضعت لفعل السنين ، و أديمه جعدته الأيام وهدلته ، لكن روحه أبت أبت الإنصياع لسطوة الزمن فظلت روح شاب في الثلاثين . كنا ننتظر درسه بشوق ، مترقبين تعليقاته اللاذعة وملاحظاته المفاجئة وتلميحلته التي يفسرها كل على هواه . كنا نلقاه بابتسام ونودعه بابتسام وكانت جملته المشهورة التي كان يقذف بها كل من سولت له نفسه أن يقدم على فعل لا يليق أو يبدي ما ينم عن بلادة أو غباء تأبى أن تبرح أذهاننا " ربنا يجحمه عبد الناصر مطرح ما راح .. جاب لنا مجانية التعليم وخلا الجربانين الكحيانين اللي زيكم يدخلو المدارس ؟؟ ربنا ينتقم منه ?? .." كان ظريفا إلى الحد الذي يجعلك تتقبل كل ما يقول وان اختلفت معه ، وكيف لا وكنت اكن لجمال عبد الناصر معزة واحتراما كبيرين ؟؟
كان يدخل متأبطا حقيبته السامسونايت السوداء ، ويخرج متأبطا إياها حريصا على ألا تفارقه أينما ذهب ، وأن لا يفتحها أمام أي كان ، وهو ما حرك فضولنا لسبر أغوارها ؟؟ وهو ما تحقق بعد عدة محاولات لنكتشف أنها لا تحوي سوى وريقات وزجاجة عطر قارورة خمر ؟؟ فقد كان العطر هواه وكان الخمر شرابه الأثير الذي يستمتع به في كل وقت دون إدمان ؟؟؟