Friday, January 19, 2007

حنين 2

لفحته سمرة الصعيد ، وجففت عوده حرارة شمسه ، ونما ذهنه وتفتح حتى ضاقت به قيود وجه قبلي وضاق بها ، فحزم متاعه ، وحط الرحال في القاهرة التي احتواها واحتوته ، ونسج في كل حي منها حكاية وفي كل زقاق من أزقتها ذكرى علقت بباله وفكره .

انحدر من عائلة قبطية موسرة أممتها الثورة المصرية ، فعلقت في نفسه مرارة لم تنجل يوما ، وغصة لم يقو على ابتلاعها أبدا ، كان يحن دوما لعصر الملكية ، وللبحبوحة التي نعم بها في الصغر ، قبطي لكنه مخالف لجل الأقباط المصريين ، لم يكن يومي ولا يوحي بقبطيته وكأن الأمر لا يعنيه ، أو كأنه أمر لا يعني سواه ، يتعامل مع الجميع بوتيرة واحدة بنفس الحرارة والحميمية والتواصل وهو ما لا يحذو حذوه الأقباط الآخرون ، وما هو بالذي يتنكر لقبطيته حين يلزم التوضيح ، وكيف يتنكر واسمه ناطق بها مشير إليها على الدوام .

كان أنيقا متأنقا ، يستمتع بالهندام ، حريص على البزة الرسمية حرصه على تأبط حقيبة السامسونايت السوداء وربطة العنق ودبوسها المذهب ، ودبوس القميص والمنديل الحريري والعطر الفواح والحذاء اللامع ، يدقق في كل شيء ويستوي عنده أكان متوجها للعمل أم للشارع أو السينما ، فالأناقة في عرفه لا تتجزأ ؟؟

هذا هو الأستاذ نجيب جلته ...

أستاذ اللغة الفرنسية في السعيدية الثانوية العسكرية ، اللغة التي عشقها فملك نواصيها ، وأجاد تفاصيلها وسبر خفاياها ، حتى غدا لعمري من أشهر من درسها في القاهرة ، وأصبح عمله اليومي يمتد ثمانية عشرة ساعة أو أكثر ، تتوزع بين المدرسة و الدروس الخاصة ، ليس لحاجة أوعوز ، وهو الذي ظل موسرا رغم التأميم ، إنما حبا في اللغة وحبا في حياة الحركة و التنقل وهو الذي ظل عازفا عن الزواج عاشقا لحريته مرددا إن أهم ما فعله في حياته عزوفه عن الزواج ، لأنه بذلك تلافى إضافة عاهة أخرى للعاهات التي تملأ البلد ؟؟؟؟

حين عرفته كانت ملامحه قد خضعت لفعل السنين ، و أديمه جعدته الأيام وهدلته ، لكن روحه أبت أبت الإنصياع لسطوة الزمن فظلت روح شاب في الثلاثين . كنا ننتظر درسه بشوق ، مترقبين تعليقاته اللاذعة وملاحظاته المفاجئة وتلميحلته التي يفسرها كل على هواه . كنا نلقاه بابتسام ونودعه بابتسام وكانت جملته المشهورة التي كان يقذف بها كل من سولت له نفسه أن يقدم على فعل لا يليق أو يبدي ما ينم عن بلادة أو غباء تأبى أن تبرح أذهاننا " ربنا يجحمه عبد الناصر مطرح ما راح .. جاب لنا مجانية التعليم وخلا الجربانين الكحيانين اللي زيكم يدخلو المدارس ؟؟ ربنا ينتقم منه ?? .." كان ظريفا إلى الحد الذي يجعلك تتقبل كل ما يقول وان اختلفت معه ، وكيف لا وكنت اكن لجمال عبد الناصر معزة واحتراما كبيرين ؟؟

كان يدخل متأبطا حقيبته السامسونايت السوداء ، ويخرج متأبطا إياها حريصا على ألا تفارقه أينما ذهب ، وأن لا يفتحها أمام أي كان ، وهو ما حرك فضولنا لسبر أغوارها ؟؟ وهو ما تحقق بعد عدة محاولات لنكتشف أنها لا تحوي سوى وريقات وزجاجة عطر قارورة خمر ؟؟ فقد كان العطر هواه وكان الخمر شرابه الأثير الذي يستمتع به في كل وقت دون إدمان ؟؟؟

حنين

في يوم كهذا مر منذ سنوات ، وكأنه بالأمس ، كنت لا أزال تلميذا في مدرسة قاهرية ، عتيقة وعريقة ، تجاور جامعة القاهرة وتقابل حديقة الحيوان الأشهر في العالم العربي وحديقة الأورمان بالجيزة . وكانت مدرستي العتيقة هذه قد شيدت أواخر القرن التاسع عشر ، في عهد الخديوي سعيد الذي منحها اسمه ، فعرفت " بالمدرسة السعيدية " نسبة له ، ما لبثت أن تحولت فيما بعد إلى " المدرسة الثانوية السعيدية العسكرية " بعد أن تلازمت فيها الدراسة الأكاديمية والعسكرية ، وغدت تتميز بمديرين اثنين أحدهما مدير تعليمي والآخر عسكري . ولعل البسمة سترسم نفسها على بعض الشفاه حين يعلم أصحابها أن الفنان محمد أحمد المصري كان المدير التعليمي للمدرسة طوال تواجدي بها ولسنوات أخرى تالية . ولمن قد يختلط عليه الأمر أوضح فأقول إن هذا الفنان عد في فترة الستينيات واحدا من أشهر الفنانين الكوميديين وقد عرف بشخصية أبو لمعة الفشار الذي كون مع الخواجة بيجو ثنائيا شهيرا ، وكان قد ظهر مع عبد المنعم مدبولي وفؤاد المهندس في برنامج تمثيلي كوميدي اسمه " ساعة لقلبك " .

مدرستي هذه كانت فسيحة ، وسط اكتظاظ القاهرة وازدحامها وتلاحم مبانيها وأهلها ، إلى درجة تدعو للاستغراب ؟؟ ضمت إدارة ومبان دراسية ثلاث تفصل بينها ساحات رحبة ، يتألف المبنى من ثلاثة طبقات و به عشرات الفصول الدراسية وغرف للمحاضرات ومختبرات وقاعات للنشاطات المختلفة . وتميزت بصوبة زجاجية كبيرة لزراعة النباتات و ملاعب للكرة وسواها وميدان لتعلم الرماية و مسرح للتمثيل ؟؟

في الثلث الأخير من كل عام دراسي كنا نحتفل ب "عيد الخريجين" . وهو يوم تحتفي خلاله الإدارة والطلاب بمن سبق لهم التخرج من المدرسة ، وهي مناسبة سمحت لنا بالتعرف على والالتقاء بمن سبقونا من المشاهير إلى الجلوس على ذات المقاعد التي نجلس عليها في ذات الحجرات وذات الأجواء التي نحيى بها ، لعل من أشهرهم يوسف وهبي وزكي طليمات وعادل إمام وسعيد صالح وصلاح السعدني وحنفي بسطان وصالح سليم وعبد الرحمن بدوي وعلي مشرفة وكثيرون غيرهم من وزراء ومسؤولين وفنانين حرصوا على مشاركتنا هذا اليوم كل عام ليتذكروا بدورهم أياما عاشوها بين جنبات المدرسة العريقة التي كان يخيل لي وأنا بين جنباتها بأني استنشق عبق أيام مضى عليها مئة سنة .

دفعني الحنين منذ بضعة سنوات إلى زيارة القاهرة ، و لم يكن ممكنا ألا أعرج على السعيدية ، فوجدتها صامدة رغم الزمن ورغم أنف البشر ، وأتمنى أن لا تمتد إليها أيدي الانتهازيين ، فلا شك أنها بمساحتها وموقعها ، وفي الوقت الذي بات فيه كل شيء ، من أملاك الدولة ، يباع في مصر ، أصبحت تساوي مئات الملايين .. وأصبحت محط أطماع الكثيرين .. هذا إن كانت بالطبع لا تزال تراوح مكانها ؟؟؟