كثيرون من استبد بهم الشوق والحنين في لقائهم الأول بالمكان فذرفوا دمعا و ونزفوا مشاعرا اختلطت فيها الرهبة بالدهشة والخشوع بالوجل .
وكثيرون من وفقوا مشدوهين أمام عبق التاريخ الذي تنسموه هناك لأول مرة ، وتسمروا أمام جلالة المكان التي تفرض نفسها وهم الذين ما ألفوها من قبل أبدا ، وأمام هيبة الجموع الغفيرة التي زحفت إلى هناك وقد احتشد الشوق في قلبها وتعاظمت لهفتها لوط ء ثرى تلك البقاع التي لطالما سمعت بها فاعتصرها حنين معاينتها فسعت إليها ، من كل حدب وصوب ، تملأ الصدر من هواءه وتملأ العين من بهائه وترسم في الذاكرة من صوره ما لا يبرحها طالما ظل في النفس نفس وفي الريق رمق .
ألمكان ليس أجمل الأماكن طبيعة ، ولا ألطفها مناخا ، وطباع أهله عليها كلام كثير كثير كغيرهم من البشر ، إنما هو أطهر الأماكن على الأرض وآمنها على الإطلاق وأصفاها وأسكنها وأهدأها على صخبه ، إنه الحرم المكي ، المسجد الحرام ، بكعبته المهيبة ومقام إبراهيم والحجر الأسعد ومآذنه الباسقات وأجواءه المفعمة بالإيمان ، بحجاجه ومعتمريه وزواره ، إنه المكان الوحيد في هذا العالم الذي لا يعرف فرقا بين ليل ونهار ، بنبض بالحياة فلا تخفت ويصدح بأصوات المكبرين الداعين المهللين فلا تصمت ، ألمكان هو أحب الأماكن لأي مسلم لأي مؤمن ، إن زاره مرة تمنى أن يثنيها ، وإن حالت أحواله دون الزيارة ظل يتمناها ويتوق إليها .
كم هي غزيرة الدمعات التي تجود بها العيون هناك ؟ دونما استئذان ، دمعات صافية طاهرة تغسل ما علق بالنفس من أدران هذه الذنيا التي لا تنفك تدفعنا نغفل عما تذكرنا به نظرة واحدة على هذا المكان لتعيدنا إلى حيث يجب أن نكون . دمعات تتدفق ، تتوالى ، كحبات اللؤلؤ في بريقها ، غالية ، لكنها لا تغلو على روعة الموقف وحلال المكان .
لكم كان ربي كريما معي ، كعهدي به دوما ، حينما جاد علي بنعمة ارتياد ذلك المكان مرارا ، ونعمة مجاورته أياما وأياما طوالا ، ونعمة احتضاني كل ركن منه بعيني وقلبي ومشاعري ، ونعمة الانغماس في كل ما يبثه المكان من نور وإيمان وروحانيات وإحساس جارف بأن الله عز وجل ، الموجود في كل البقاع ، فد غدا هناك أقرب مني يكاد يلامسني ، يكاد يحدثني ، تعالى عن أي وكل تشبيه .
ولكم أنا طماع إذ يستبد بي الشوق دوما للمكان ، وتهفو إليه النفس في كل حين ، ويا ربي زدني طمعا من هذا الطمع ولا تجعلني أبدا من القانعين .
الطيب