Sunday, October 22, 2006

الباحثون عن القهوة


الباحثون عن القهوة

منذ سنوات ، وحين كنت أتابع دراستي بالقاهرة ، كان يلفت انتباهي في كل مرة تسوقني فيها الظروف إلى وسط البلد ، كما يسميها المصريون ، منظر ذلك الشرطي المطحون الذي يتوه وسط سيل جارف من السيارات لا ينقطع ، يحاول أن ينظم مساراته ويضبط إيقاعاته ، فلا هو ينظمها ولا هي تأبه بوجوده أصلا ، فينصرف في معظم الأحيان إلى أمور أخرى تكون أنفع وأجدى بالنسبة له ، فيساعد هذا تارة في إيقاف سيارته بجوار الرصيف ، أو يسهل لذلك الخروج من مكان وقوفه إن استعصى عليه الأمر ، مقابل قروش معدودة لم تكن حينئذ لتزيد بأي حال من الأحوال عن الخمسة أو العشرة يلتقطها باستحياء وخجل يواريهما وقع الحاجة والعوز ؟؟ كنت أستغرب منظرا كهذا وأنا القادم من بلاد كان الشرطي فيها يقف منتصب القامة مزهوا بنفسه سيدا لمكانه .

تلك الصورة التي كانت تلتقطها عيناي باندهاش واستغراب في قاهرة المعز أتذكرها اليوم كل يوم ، فقد بت أراها ذاتها في الرباط منذ سنوات ، وليس في القاهرة التي من المؤكد أنها أصبحت تعاني من ظواهر أخرى أشد وطأة عما كنت أشاهده في تلك السنوات ، وهذا المشهد الذي بات مألوفا في رباط اليوم كان من المستحيل أن تراه في رباط الامس فقد غدا اليوم صورة مألوفة من صور الحياة الرديئة والزمن الغريب الذي نحياه ؟؟ الصورة هنا اليوم هي ذات الصورة هناك بالأمس مع تفاصيل إضافية صغيرة تجعلها أكثر حدة ووقعا ، وهي لا تدفع راصدها إلى الاندهاش والاستغراب بقدر ما تدفعه إلى الأسف والاستياء .

تلك القروش التي كان يقدمها قائد السيارة في الزمن الذي خلا بتلقائية وعفوية وتقابل بخجل وتحرج ما عادت كذلك اليوم أبدا ، فالصورة الآن فيها تلميح وإيحاء أحيانا قليلة ، حين يفتعل الشرطي سببا لإيقافك ولإسماعك كلمات عن ظروف العيش الصعبة وتدني الأجور وتزايد أعباء الحياة وتكاليفها تاركا لك الباقي لعلك تفهم وتبادر بتقديم المطلوب ..... وقد تكون الصورة فيها الكثير من التصريح حين يطلب منك صراحة ما اصطلحوا على تسميته " القهوة " مقابل التغاضي عن مخالفتك ؟ إن كان هناك مخالفة ، فإن أغفلت طلبه أو تجاهلته يضغط بتخييرك بين دفع الغرامة الرسمية وبين دفع جزء منها إلى جيبه الخاص وهنا لك أن تقبل بالابتزاز صاغرا أو بدفع المخالفة كاملة وهو اختيار لا تحبذه هذه الشريحة التي مهما قل عددها تبقى منظورة تسيء إلى الشرفاء الذين مهما ضاقت بهم سبل الحياة لا يقبلون على أنفسهم نهب السائقين والتعدي عليهم بمنطق لا يختلف عن منطق الفتوات والإتاوات ..

صور افتعال مثل هذه المواقف كثيرة وعديدة ، لست الآن بصدد سردها . فكل من يجلس خلف مقود يرى ويصادف ويتعرض لها إذ شاعت مظاهرها دون أن تجد من يضع لها حدا ، على ما يبدو ، أو حتى من يحاول أن يحجمها . ولعل أطرف الصور وأكثرها مدعاة للأسف في آن واحد ترتسم في الطرق الرابطة بين المدن ، السريعة أو العادية حيث توجد فئة من السائقين دائمي التردد عليها أصبحوا خبراء فيمن يبحث عن القهوة ومن يأبى الانحدار إلى هذا المستوى ، وحتى لا يعطلوا مصالحهم أو يهدروا وقتهم ابتدعوا طريقة تناسبهم وتناسب أصحاب القهوة إذ باتوا يرمون من النافذة بالتعريفة المحددة حسب نوع المركبة التي يستقلونها وما عليها ومن فيها دون التوقف ، وغدا بالتالي طبيعيا أن ترى الباحثين عن القهوة ينحنون بين الفينة والأخرى للبحث عن المحصول أو لالتقاطه في منظر مؤسف يشوبه الكثير من الهوان .

هي صورة أتمنى أن تنمحي فهي لا تسيء إلى هؤلاء المعنيين بالأمر فحسب بل تسيء إلينا كلنا والى البلاد .