Saturday, December 30, 2006

إعدام صدام

أرادوا أن يقتلوا الرجل فقتلوه ، أخرجوا مسرحية هزلية ، هزيلة ، أسموها محاكمة ، وفروا لها قضاة ومدعين عامين أشبه بشخصيات الرسوم المتحركة ، وكانوا يستعجلون إنهاء فصولها ، لينفذوا ما أضمروه منذ البداية ، وليتخلصوا منه ، فوجوده بين أيديهم هو حتما أمر يزعجهم ويرهقهم ويخيفهم .

قتلة صدام كثيرون ، كثرة من يرفضون كلمة الحق ، وكثرة من يجيدون الانحناء والانبطاح لأمريكا ولعملاء أمريكا ، قتلة صدام هم هؤلاء المجرمون الذين يحكمون العراق ويلتفون حول المائدة العراقية ينهبونها ، ومن خلفهم المرتزقة الغربيون الذين يحمونهم ويجنون نصيبهم من مال وشرف وعزة العراق . قتلة صدام هم كل عربي آثر الصمت ، والتزم السكون أمام هذا الجور ، قتلة صدام زعماء العرب كلهم ، بعد أن غضوا أبصارهم عما يحدث ، وعما أصاب واحدا كان منهم ، وربما كان درتهم .

كان صدام إنسانا من بني البشر ، لم يكن ملاكا لكنه ما كان شيطانا ، أصاب حينا وأخطأ حينا ، كان عادلا وإن جار ، كان مخلصا ما خان ، ولم يلعق الحذاء الأمريكي كسواه ، كان عربيا حرا يمجد العرب والعروبة ، لكنه قدم للأكراد ما لم يقدمه أحد لا في تركيا ولا إيران ولا سوريا ، عم فضله على الجميع ، مالا ونفطا وسلاحا ، واسألوا إن نسيتم أهل الأردن وفلسطين ومصر واليمن والمغرب وموريتانيا ، بل اسألوا كل العرب .

صدام مات ، عفوا قتل ، في أول يوم من أيام العيد ؟ ويا له من توقيت يعكس ما في نفسية قاتليه من مرض ، وما في سلوكهم من سادية ، وما في مشاعرهم من دونية متناهية ، قتلته الذين حرصوا على تصويره ساعة إعدامه ؟ حسبوا أنهم سيفوزون بصور تعكس خوفا وذعرا في عينيه ساعة مثوله أمام المشنقة ، ليبثوها أمام من الملايين ممن احترموا الرجل وقدروه ، لعلهم بذلك يختلسون من رصيده لديهم ولو قليلا ؟ لكنه ، كعادته ، خيب رجاءهم ، فبدا كما عرفناه وألفناه ، لا يهاب مشنقته ولا شانقيه ، ولا يكترث بالمقنعين الذين أحاطوا به ، (وما أقنعتهم إلا دليل بين على ذعرهم وخوفهم هم ) ويتقدم بثبات ، عالي الهامة ، رابط الجأش ، يقرأ الشهادة ، ويحيي شعبه وشعب فلسطين ، دون أن ترتجف له شفه ، ليسلم روحه إلى بارئها بوقار عز نظيره . فوجه بذلك آخر صفعة لسجانيه ، في آخر مشهد يبدو فيه ، مشهد إعدامه ؟

صدام حسين قتل .. ليبيا تعلن الحداد ثلاثة أيام ؟ السعودية ترى أن الوقت لم يكن مناسبا ؟ وسوف تتوالى حتما ردود الأفعال العربية بمرور الوقت ، وستكون حتما باردة ، مهما كانت وكيفما كانت ، فقد غاب صدام وانتهى الأمر، وكان حريا بهم أن يواصلوا صمتهم وهوانهم ، لا أن يحاولوا أن يجملوا قبحهم .

ليس دفاعا عن صدام ، إنما عن الحقيقة _ 2



إن كان صدام حقا مجرما (كما يدعون) فما الذي حال دونهم ودون أن ينصبوا محكمة نزيهة شريفة عادلة تنظر في كل ما يتهم به ؟ إن كان قد اقترف ما يدعون فقد كان الحكم بإعدامه مضمونا مؤكدا لاشك ، حتى وإن حاكموه في واشنطن ذاتها ، أو في قلب البيت الأبيض ؟ فما الذي دفعهم لهذا الخوف والهلع والتسرع ؟ وإذا كان هذا الرجل مكروها منبوذا من شعبه ، لا يناصره ولا ينتصر له أحد ، فلماذا حرصوا على محاكمته في ذلك المكان المسيج المطوق المزروع وسط ألاف الجنود الأمريكيين والعراقيين الأتباع ؟ وتحت أعين الطائرات والحوامات ؟ وإذا كان الحق يجانبه والجرم يلازمه فلماذا امتنعوا عن نقل جلسات المحاكمة مباشرة ؟ ولماذا دأبوا دوما على اقتطاع فقرات عدة حجبوها عن أعين المتابعين ؟ ولماذا قمعوا المحامين وأرهبوا المتهمين ونصبوا قضاة مهزوزين يوجهون بالإشارة والنظرات .

صدام كان ولا يزال زعيما ورئيس دولة ، شاءوا أم أبوا ، حكم العراق سنوات طوال ، وتعاملوا معه على هذا الأساس ، خطبوا وده ، وقصدوا بغداد فكانت محجهم دهرا طويلا . صدام حقق لبلاده ما لم يحققه الذين ترضى عنهم الولايات المتحدة الأمريكية وتدعمهم وتنصبهم ، رفض الهروب من المعركة ، وأبى مغادرة البلاد قبل الغزو محملا بحقائب تضيق جنباتها بما تحويه من مال ، وكم كان ذلك سهلا يسيرا حثه عليه الكثيرون من الزعماء العرب ، لم يؤمن لأبناءه قصورا في المنافي ، ولا حسابات مصرفية في جنيف ، ولا مشاريع تدر الملايين ، بل ظل وعائلته في قلب العراق حتى أسر ، سلبوه كل حقوقه ، ونصبوا له محكمة هزلية أطاحت بالنزر اليسير الذي تبقى من سمعة الولايات المتحدة الأمريكية (إن تبقى منها شيء) ، وأكدت صواب رأينا نحن الجماهير العربية في رئيسها بوش الولد .. عفوا أقصد الإبن .

وتحول العراق البلد الضاربة جذوره في التاريخ إلى كتلة من لهب ، مئات القتلى كل يوم ، دمار وخراب طال المساجد و الكنائس و المشافي و حتى المقابر ؟ نهب وسلب مارسه الأمريكيون قبل العراقيين أزلامهم ، ومعتقلات توالدت حتى ضاقت بها البلاد ، وتعذيب وتشويه وتنكيل ،وفتنة طائفية تعصف بالجميع ، بعد أن أوقدت واشتعلت و زحفت في كل صوب واتجاه . ها هو العراق الذي أراده الأمريكان للعراقيين قد تحقق .

قد يعدم صدام حسين بعد ساعات قليلة ، يستطيعون تحقيق ذلك ، وهو حلم راودهم طويلا ليطووا به صفحة رجل تجرأ فقال لا ، لكنه سيصبح شهيدا ولن يملكوا (مهما فعلوا) أن يحرموه من هذا اللقب ، كان رجلا حين هدد بضرب اسرائيل ، و حين ضرب إسرائيل ، و حين قاوم الحصار ورفض الفرار ، وحين احتسب ولديه فداء للوطن ، وحين كبل بالقيود ، كان رجلا حين حوكم ، وحين حكم عليه ، وسوف يبقى رجلا حين يعدم وبعد أن يعدم ، فلا الأمريكان ولا الدمى العراقية الحاكمة تملك أن تنزع تلك الصور من أعيننا ولا هي قادرة على أن تبدل تلك الفكرة التي في العقول . صدام إن أعدم فسيكون واحدا ممن اقتفوا قولة أسماء بنت أبي بكر لابنها عبد الله بن الزبير حين استشارها فيما دعاه إليه الحجاج من أن يعلن الولاء والطاعة ، فقالت له ناصحة : يا بني ، لا ترضَ الدنية ، فإن الموت لابد منه . قال: إنى أخاف أن يمثََّل بي ، قالت : يا بنى ما يضير الشاة سلخها بعد ذبحها. قاتل عبد الله بن الزبير ، واستشهد ، فما كان من الحجاج إلا أن حز رأسه وبعث به إلى عبد الملك بن مروان وصلبه طويلا .. لم يستطع الحجاج أن يزور التاريخ فقد وضع التاريخ الحجاج في مكانه بين المجرمين ، وبوء عبد الله بن الزبير مكانه بين الشهداء الأبرار . كما لن تتمكن أمريكا من أن تزور التاريخ رغم سطوتها ، فما مآل بوش وتشيني ورامسفلد والآنسة العانسة رايس وبولتن و...... بأحسن من مآل الحجاج ، بل ربما أسوأ .

فجر غد يطل اليوم الأول من عيد الأضحى في جل الأقطار الإسلامية ، العيد الذي يقدم في صباحه المسلمون أضاحيهم تقربا من لله وللاه ، وفجر غد هو اليوم الذي اختاره الأمريكيون (حسب الأخبار المتداولة) لكي يعدموا فيه صدام حسين ، في صبيحة أول أيام العيد ؟؟؟؟ يا لها من هدية يقدمونها للمسلمين في عيدهم ، تعكس لنا كم هم يقدرونهم ويحترمونهم إلى الدرجة التي تدفعهم إلى أن يسخروا منهم على هذا النحو ، ومن عيدهم ، ومن مشاعرهم ، وكأني بهم يلطمونهم صفعا على وجههم ، صفعة تلو صفعة ، إمعانا في الإهانة والمذلة ....... دون أن يحركوا أي ساكن ....