وأخيرا قرر الرفيق فيديل كاسترو الرفيق بشعبه المحب له أن يتنحى جانبا وأن يترك الحكم لرفيق آخر .
كان القرار مفاجئا ولم يكن مفاجئا ، و كان قرارا صائبا جاء في وقته أو تأخر قليلا بعد أن اعتلت صحة الرجل وما عاد قادرا على تحمل أعباء الحكم التي تتضاعف وتتعاظم في دولة ككوبا لظروف الخنق والحصار التي فرضتها عليها الولايات المتحدة الأمريكية منذ عقود ولتوالي محاولات زعزعة الأمن فيها التي لم تتوقف .
لم يكن كاسترو حاكما كغيره من الحكام ، كان زعيما بحق في بلاده وفي البلاد المجاورة . وكان معشوق الكوبيين الأول ، وكيف لا ، وهو الذي حقق وطبق مفهوم الاعتماد على النفس بنجاح وهو الذي قضى على الأمية رغم الحصار الاقتصادي الذي ما ارتفع عن كوبا منذ تولى حكمها . لم يكن كاسترو مدعيا ولا كاذبا بل صادقا ومبتكرا فقد دعا إلى تعطيل الجامعات والمعاهد الكوبية كلها لمدة عام دراسي واحد يتفرغ خلاله الطلاب والعاملون في سلك التعليم الجامعي لخوض حرب لا هوادة فيها ضد الأمية ، وهو ما تم فعلا ، فقد هب الجميع لندائه وتمكنوا من تقليص نسبة الأمية التي كانت تقارب المئة في المئة إلى اثنين بالمئة أو أقل بقليل ، ومن الطرف التي تروى على لسانه بعد أن تحقق الهدف أنه بما حدث صار يصعب عليه استغفال الشعب الكوبي أو الكذب عليه ؟؟؟
وقد وفر كاسترو لشعبه مجانية التطبيب ( الاستشفاء )وارتقى بمستوى العلاج حتى غدا لكل كوبي الحق في العلاج المجاني وفي الحصول على الدواء بلا مقابل إذ اعتبر الرفيق ذلك مسؤولية الدولة وحق الشعب عليها ، وقد تمكنت كوبا مع الوقت من أن تصبح المزود الرئيسي لدول أمريكية جنوبية عدة بالأطباء وبالخبرات الطبية الحاذقة .
تنحى كاسترو ليعطي للمخابرا ت الأمريكية فرصة تلتقط خلالها الانفاس بعد أن أعيتها المحاولات المتتالية لاغتيال الرجل والتي ربت إلى مئة وستين محاولة باعترافها ، فشلت ، رغم ان الرجل لم يكن يحيط نفسه بمتاريس من الحراس أو المصفحات وما كان يستقل سيارات مدرعة تقيه رصاص الاغتيال كما نرى في عالمنا العربي بل كان يكتفي بحارس يجاوره وسيارة جيب ترافقه تحمل حارسين اثنين فقط فقد كان يؤمن أن الحارس لأول له هو شعبه لا الرشاشات والمسدسات ، ولعل الشاهد على ذلك ما ورد في سجلات المخابرات الأمريكية من أنها استطاعت أن تتوصل إلى صناعة مزيج سمي يضاف إلى طلاء الأحذية يستطيع أن يتسرب إلى جسد منتعل الحذاء فيقضي عليه في مدى ساعات قليلة ، لكنها عجزت عن تجنيد أحد المقربين من كاسترو ليعمل على تنفيذ المطلوب . كان الرجل يتنقل من مكان إلى آخر بين المقاهي والمطاعم والمصانع ، كان يخطب أمام الناس في الساحات والحدائق ، ويكتب في الصحف بشكل منتظم مما جعل شعبه قريبا منه مطلعا على كل ما يدور بخلده ومما جعله يتلمس نبض شعبه مباشرة مطلعا على أحواله دون حاشية ودون جواسيس أو رواة فقد كان يؤمن على ما يبدو بالمثل العربي " ما آفة الأخبار إلا رواتها " .
تنحى كاسترو وتلقى تحية الصديق والعدو وكان لافتا ما وصفته به القيادة الصينية التي كانت على خلاف أيديولوجي حاد مع الرجل طوال سني حكمه إذ كان أميل للطرح الاشتراكي السوفييتي منه إلى الطرح الصيني لكن ذلك لم يمنع الصين من وصفه بالمعجزة ومن أن تكيل له من كلمات الثناء والمديح الكثير الذي فاجأ المتابعين .
تنحى كاسترو دون ضجيج ، دون أي سيناريوهات ولا مسرحيات هابطة ، دون أن يدفع بالجماهير لتهب إلى ثنيه عن ذلك ويعود إلى كرسيه ، فقد ألف شعب كوبا أن يصدق الرفيق فلما تنحى صدق الشعب أن الرفيق ما عاد باستطاعته قيادة البلاد التي تتهددها مخاطر ومصاعب كثيرة فاحترم رغبته مبديا كل المحبة له .
كاسترو رئيس وزعيم وقائد يتنحى ولا يملك حسابات في سويسرا ولا أموالا متراصة ولا عمارات ولا مزارع ولا قصور أو يخوت أو ........... يتنحى وكل ما يملكه فكره الذي احترمه الكثيرون ونضاله وإخلاصه وثباته على المبدأ ومحبة شعبه له رغم كل محاولات القوة العظمى لعزله أو قتله أو تشويه صورته وتصويره بالديكتاتور الشرير ، وهي الصورة التي تطلقها على كل من اختلف معها ، تنحى وتكسرت كل محاولات الولايات المتحدة الأمريكية تحت اقداد الرجل دو القامة العالية .