لم أكن يوما من هواة الجلوس على الأرصفة ، أرقب الغادي والبادي ، وأحتسي كأسا من القهوة أو الشاي ؟ لم أكن يوما من رواد المقاهي ، ولم تكن تلك عادة من عاداتي ولا كنت معجبا بمن ابتلوا بها إلى حد يصل أحيانا إلى الإدمان ؟
لم يكن منظر الجالس على كرسي في مقهى يقلب صفحات الجرائد أو يعتصر كأسه ، أملا في أن يبقى معه أطول فترة ممكنه ، أو يتفحص بعينيه متتبعا هذه أو تلك ، ليجذبني أو ليدفعني إلى الجلوس مكانه أو جواره ولو حتى من باب الفضول ؟؟
لكن الظروف شاءت وحكمت ، فدفعت بي إلى هناك ، مكرها ، رفقة واحد من الحرفيين بانتظار إنهاء عمل ما كلفته به ، وكان حتما علي أن أرابض جواره إلى حين انتهاء المهمة ؟؟ وقد طال بنا المقام ساعات ، مرت ثقيلة كأنها الدهر كله ؟؟ ولم يكن أمامي بد أو مفر من احتضان ذلك الكرسي في مدينة لا أعرف فيها أحدا ، ومن الاستماع إلى حديث ذلك الحرفي ،الثرثار، الذي صال فيه وجال وشرق وغرب ، مازجا حقيقته بالخيال والخرافة وبمغلوط الأفكار وبالوجع والشكوى ، حتى وجدت نفسي في دوامة من ترهات لا مجال لتصحيحها ، ولا مناص من الاستماع إليها ، ولا فكاك من الصبر عليها .
المكان ، مقهى متواضع ، يشرف على الشارع الرئيسي الأكبر ، يطوق خاصرة المدينة ، يقسمها إلى قسمين شرقي وغربي ، يصلها جنوبا بالرباط وشمالا بطنجة وفاس . أما المدينة فالقنيطرة ، التي لم أحمل لها في نفسي أو قلبي يوما ميلا ولا إعجابا ، بل ربما ، ولا حتى ارتياحا . أما الزمان ، فقد امتد من الحادية عشرة صباحا إلى الرابعة عصرا ، في يوم ربيعي افتراضا ، صيفي واقعا ، أخذ من سمات الصيف اللاسع كل مأخذ واكتفى بالإسم من سمات الربيع ؟ .
كان قعودي هناك قعود المتفرج في المسرح ، يراقب ويسمع ما يدور أمامه وحوله صامتا ، إن راق له العرض استمتع به ، وإن ضاق وضجر صبر حتى ينتهي صبره ، وغادر غير آسف ولا مبالي ؟؟ مع فارق لا يغفل كون العرض هنا حقيقي ، يرصد مشاهدا من الحياة التي نحياها أو التي يحياها الآخرون ، وصورا للمجتمع الذي أنا منه ، وإن رفضت ما فيه ، انتمي إليه و أظل عنصرا من مكوناته ، لي ما له وعلي ما عليه ، شئت أم أبيت ؟؟
المشهد الاول
أجواؤه صخب وضجيج وصياح ، وأبطاله تلاميذ صغار يتدفقون خروجا من المدارس المجاورة ؟؟ حشود غفيرة يسبقها ذلك الصوت الذي يخترق المسامع دون استئذان أو هوادة ؟؟ فإذا ما بدوا للعيان تدهشك حركاتهم المخلة وتدافعهم وانفعالاتهم وكلماتهم النابية التي لا يأبهون بمداراتها ، بل يستمتعون في تلقفها والتنابذ بها وكأنهم يتبادلون كلمات الغزل والمديح ؟؟ المشهد يزخر بمعالم الفوضى وعد م الالتزام والتسيب ؟؟
لم تكن البنات ببعيدات عن المشهد الصاخب ، ولم يكن بأحرص من البنين لفظا أو حركة ؟؟؟ ولكم حاولت أن أجد من تبدي حياء أو خجلا مما يتناثر حولها من كلمات وحركات ، دون جدوى ؟؟ فالأمر كان عاديا لدى جلهن إن لم أقل كلهن ؟؟ وكنت أنا الغير عادي المتطفل على المشهد ؟؟ و لعلي لا أبالغ إن أنا شهدت لهن بالسبق والتفوق ، ذات الصوت العالي و الكلمات النابية ، وذات الحركات المخلة أحيانا والحدة والغلظة في التعامل ؟؟
هالني أن تنحى نساء الغد هذا المنحى وأن تكن على تلك الشاكله ؟؟ لكنني استدركت مبتسما وقلت لنفسي : ربما آثرن التخلي عن لقب الجنس اللطيف في الزمن غير اللطيف ؟ أو ربما هي توصيات تلك الجمعيات النسائية التي لا أطيقها ، والتي باتت تتكاثر كالفطر من باب الانتفاع لا النفع والاستفادة لا الإفادة ؟؟
أهذا هو الجيل الذي سيرفع شأن ولواء هذه البلاد وسيعمل على انتشالها من تخلفها وجهلها وأميتها التي عشعشت ؟؟ أم تراه الجيل الذي يتمنونه ليغدو السند لمزيد من التخلف و التراجع والتقهقر ؟؟ .
المشهد الثاني
الكل ينادي على طريقته ؟ والكل يحاول أم يعلو بصوته على بقية الأصوات ؟؟ واصفا ، مرغبا ، مشجعا ؟ عشرات الباعة المتجولين ، الساعين لكسب قوت يومهم بالحد الأدنى من الشرف المتاح ؟؟ بكد وعرق ومعاناة تخطت معاني الصبر والكفاح؟؟ يحملون ما تيسر لهم حمله من بضاعة ، لا تهم ما هيتها ؟ ولا كميتها ؟ ما يهم هو نيل الرزق الضنين ، يعرضونها تارة ، يخفونها تارة ، ويفرون تارات تأبيا لبطش شرطة لا تبحث عن فرض قانون أو نظام بقدر ما يسعى أفرادها لسلبهم دريهمات لا ضير إن كانت مغمسة بعرقهم ودمهم ، وهم الذين آثروا المكابدة على التوجه إلى حيث المال اليسير ؟؟
هذا يحمل ملابسا داخلية أوخارجية وذلك يجر عربة خضروات وفاكهة وتلك مناديل ورقية وهؤلاء أدوات لزينة السيارات و نظارات و أحذية وهناك من يشوي ذرة أو لحما أو .... على عربة متنقلة .......... هو سوق يتنقل هنا وهناك ، يتجول لحظة ويهرول لحظة ويفر لحظات .
المشهد الثالث
تقطع الشارع طولا وعرضا ، شاغلها أن تراها ويراها وأن تلفت انتباه الجميع ؟؟ هذه طلت وجهها بالمساحيق والألوان المتاحه ، وتلك التحفت بالقصير وهاتيك بالضيق ، وأخريات بالضيق وبالقصير معا ؟؟ لعلهن تبدين مفاتنا احتجبت ؟؟ تروح وتجيء ، وتلقي نظرة هنا ونظرة هناك ؟ وابتسامة أو غمزة لم لا ؟؟ تتمايل يمنة ويسرة ، وتلتوي وتنحني ؟؟ لعلها تجذب هذا أو تجلب ذاك لدقائق ربما ، لساعة أو سويعات . ليس مهما من يكون ، أو كيف يكون ، فهي لا تكاد ترى منه إلا محفظته ؟؟
لم تضف لها الألوان أو المساحيق جمالا ، ولا زادتها الملابس تيها ولا دلالا ، بل بدت منفرة مبتذلة تعافها النفس السوية ، ولا يقبل عليها إلا كل من دنت نفسه وتواضع ذوقه وحسه وانحدر حتى الحضيض ورأى أن مقالب القمامة يمكن أن تغدو مزارا تزار ؟؟
المشهد العام
متسولون يجوبون الأزقة يصعب حصرهم . يبدع كل منهم في اتجاه لعله يكسب أكثر؟ هذه تحمل رضيعا ، وهذا يتأبط وصفات طبية وصور أشعة ، وذاك يكشف عن عاهة تلازمه ، وتلك تدعو لك دعوات تتوالى كزخات المطر ، ذلك يقرأ آيات من القرآن الكريم ، بعضهم يمشي سويا وبعضهم على كرسي أو يقوده آخر باعتباره ضريرا ومنهم من زحف ومن مشى على يديه ؟؟؟؟ وكلهم يلتصقون بك ويأبون عنك فكاكا ؟؟
وهاهم ماسحو الأحذية يتقاطرون ليكملوا المشهد ؟؟
واحد تلو الآخر ، يطرق فرشاته في صندوقه ، مذكرا أن حذائك مترب بحاجة لبعض لمعان ، وهم الحفاة أو بالكاد يلبسون ما يقي أقدامهم عواقب الحفاء ؟؟
وهاهم الحمقى أو من يدعون الحماقة يطلون برؤوسهم من هنا وهناك ،، حتى ليدهشك عددهم الغفير ؟؟؟
أما المارة فتعلو وجوههم ملامح الضيق والإرهاق ؟؟ علامات التوتر بادية على جلهم ، قليلة هي رنات الضحكات كثير هو صوت الشجار ، إن خمد هنا يعلو هناك ، هذا مع صديقه أو صديقته ، وذاك مع التاجر ، وتلك مع جارتها ، وذاك مع الشرطي .... كلهم يرسمون صورة المدينة التي جلست أطل عليها من نافذة المقهى .
تتعالى أصوات الناس والباعة ، وتدوي طرقعات الدراجات النارية ويتعالى هدير السيارات والحافلات والشاحنات التي تعبر الشارع ، تعزف أبواقها أسوأ الألحان ، ويلون عادمها وأدخنتها الأجواء والفضاء بالأسود و الرمادي ، وتضفي إليه رائحتها السامة عطرا ، لا يفارقها لنستنشقه ؟؟ وتأبى الأتربة والأغبرة التي تجتاح الشوارع والأرصفة إلا أن تنتفض كلما مرت عليها أو جوارها سيارة أو شاحنة لتشارك في تكوين الصورة فتزيدها عتمة ؟؟
لوحة واقعية لمدينة مغربية صغيرة ، لا أعتقد أنها تختلف إلا في بعض تفاصيلها عن مدن كثيرة على امتداد العالم العربي ، زادت من إحساسي المتنامي بالوجل من المستقبل ؟؟ وطمست تفاصيلها كل اللوحات التي ترسمها الحكومات الرشيدة ؟؟ وأكدت لي من أني كنت على صواب حين نفرت من المقاهي وما يمكن أن أراه من نافذة المقاهي ؟؟ وإن كانت الحقيقة ؟؟ فمرارتها تفوق مرارة القهوة المحتساة هناك .
ألطيب